2024-09-19 20:33:28
الطبيب النفسي ...ضرورة أم رفاهية؟ ... بقلم : د. رفيف فايز المهنا

الطبيب النفسي ...ضرورة أم رفاهية؟ ...

 
مقالات واراء

في آخر زيارةٍ  لبلدي سوريا منذ أشهر، إستغربتُ بشدة التحول المذهل في نظرة الناس للطبيب النفسي، لدرجة أن أغلب من إلتقيت كان ينصحني وبشدة بالعودة المبكرة لأرض الوطن فسوقُ الطب النفسي "ماشي"


والجميع صار بحاجةٍ ملحة لزيارة العيادة النفسية مراراً وتكراراً حتى أن فتاة شابة إلتقيتها بالصدفة كشفت أمر علاجها النفسي علانية وبدون أي خجل ذاكرةً أسماء الكثير من مضادات الإكتئاب التي تتناولها منذ سنوات.
وعندما سألتها عن جرأتها في الحديث عن مشاكلها النفسية بوجود أشخاصٍ لا تعرفهم أخبرتني وبكل ثقة "أن معظم صديقاتها يقصدن عيادة الطبيب النفسي ، لقد صار الأمر عادياً وضرورياً فلِما الخجل؟"

سررت بالطبع بأن أسمعَ كلاماً مختلفاً وواعياً وجريئاً في آنٍ معاً، لكنني سأمنح نفسي الحق بالسؤال التالي :
 ما الذي حصل في مجتمعنا من تحولات حتى تتغير النظرة للطبيب  النفسي وتتحول إلى ضرورة ملحة؟

وقد يُطرح نفسُ السؤال بأسلوب آخر : " كيف كنا نخفف مشاكلنا النفسية في مرحلة ما قبل الطبيب النفسي ؟
بالتأكيد أول جواب يخطر في الذهن هو التغيرات الإجتماعية والإقتصادية التي يعيشها مجتمعنا الآن ، إبتداءً من ساعات العمل الطويلة التي زادت من العزلة الإجتماعية ، وإنتهاءً بدخول مجتمعنا قائمة المجتمعات الإستهلاكية اللاهثة بعطش شديد نحو التفوق المادي.

ما  يميز مجتمعنا السوري خصوصاً والعربي عموماً هو أنه مجتمع جمعي تتحدث فيه الجماعة  باسم الفرد ويتخذ فيه الفرد مواقفه من روح الجماعة. نمط إجتماعي يخفف بالمشاركة عبء الحياة على الفرد ويساعده أمام كل المعوقات ، عندها تتحول الحاجة للطبيب النفسي إلى حالات نادرة تتعلق بأمراض عصية على الجماعة ولا يمكن تخفيفها بالدعم العاطفي .
أما اليوم فهناك ميل حقيقي بإتجاه الفردية والإعتماد على الذات كمصدر لكل الحلول، فتتكون ثقة بالنفس سرعان ما تختفي أمام أول مواجهة مع محدودية الإمكانيات . فرديةٌ ستعود للبحث غريزياً" عن جماعةٍ تقف إلى جانبها فلن تجد إلاّ الطبيب النفسي للتخفيف من إحساس الوحدة ، هذا الإحساس الذي يُظهر ويوماً  بعد يوم أنه أصعب ما قد يعيشه بشر.
على صعيد الأسرة يمكن أن نتحدث عن مجموعة متنوعة من العوامل التي حولت الطبيب النفسي إلى ضرورة إجتماعية
لقد تحولت تدريجياً المهمة الأولى للزوجين إلى تأمين الحد الأعلى من الضرورات المادية ، متنافسين بشكلٍ واعٍ أو غير واع مع شخص آخرٍ إفتراضي أو حقيقي يتفوق عليهم ويُؤَمِّنُ لأولاده سكناً أفضل وسيارة أجمل ومصروف جيب أكثر ، حتى يصير تقييم جودة العلاقة بين الآباء والأبناء معتمداً على قدرتهم على تلبية الحاجات المادية التي تبدو يوماً بعد يوم أكثر إلحاحاً.
أقصد هنا أن التحول الإجتماعي الراهن رفع من أهمية حاجات الفرد المادية على حساب حاجاته العاطفية والنفسية وأقتنعنا بطريقة ما أننا وبمجرد تأمين أفضل الشروط المادية للحياة سنؤمن بشكل تلقائي كل الضرورات الأخرى .
في خضم هذا السباق لن يجد أحدٌ وقتاً للتفكير بحاجات محيطه النفسية والعاطفية  فيطلب طبيباً نفسياً ليأخذ عنه هذا الدور (تماماً كما نفعل مع الاساتذة الخصوصيين) متذرعاً من جديد بضيق الوقت وبأن لديه الكثير من الإلتزامات المادية عليه إنهاؤها قبلاً، ليظهر جلياً مدى سهولة تأمين الحاجات المادية أمام صعوبة وتعذر الإهتمام بالمتطلبات النفسية والعاطفية.
ولتكتمل اللوحة، يصر الأهل على أن تقتصر أمور تربية الأولاد بالوالدين فقط، مما غيب تدريجياً دوراً سرياً وسحرياً للجَدَّيْنِ ، كان يحل فيما مضى محل الشخص الثالث ويساهم ولو بطريقة بدائية وغير مهنية على التقريب بين الآباء والأبناء من جهة وعلى منحهم بعض الضرورات العاطفية والنفسية.
وللذهاب بعيداً ، أضيف عاملاً أعتبره مهماً جداً، ألا وهو إنحسار دور رجال الدين (مسيحين ومسلمين) في الإنخراط في العملية التربوية ، وفي بناء شخصية الفرد ، فقد كانت زيارة رجل الدين ضرورية لما يتمتع به من إمكانية الإصغاء بحيادية وإعطاء النصائح بحيادية، والتقريب بين وجهات النظر بحيادية كونه يرى المشاكل من خلال سياق عام لا عبر نظرة قاصرة،فلطالما يشبّه المرضى زيارتهم للطبيب 
 النفسي بالجلوس على كرسي الإعتراف،ففي كلا الحالتين يعيش الفرد حالة من الثقة والراحة وبأن الشخص المواجه له مهتم بما يقول بمحبة وبدون خوف من توبيخ أو إتهام.
يبدو واضحاً أن حضور الطبيب النفسي في مجتمع ما يعيش مرحلة تغيير، صار أمراً ضرورياً ، لكنه ما يزال بحاجة إلى إعادة تعريف وصياغة جديدتين، مع ضرورة وجود بنية تحتية" تسمح للطبيب النفسي بالقيام بعمله.
وأقصد بالبنية التحتية، مستويات عدة ، منها ما يتعلق بالثقافة العامة تجاه المرض النفسي وهو شأن وزارة الصحة التي من واجبها نشر معلومات عامة عن الأمراض ولو إضطر الأمر إلى إعلانات طُرقية، وكتيبات تُوزع بشكل واسع تشرح بشكل سهل وبسيط هذه الأمراض وأعراضها .
في الخطوة التالية لنشر المعلومات، لا بد من إفتتاح مراكز نفسية مجانية، تماماً كما المستوصفات الحكومية ، حيث يستقبل طبيب نفسي المراجعين مجاناً، وأقول مجاناً لأن أكثر الأمراض النفسية تحتاج إلى علاج طويل الأمد لا يمكن لمواطن عادي تحمل تكاليفه (كالسكري والسرطان).
إلى جانب ذلك، لابد من ربط هذه المراكز مع المشافي الحكومية التي تحتاج بدورها إلى زيادة عدد الأَسِرّة التي لا تلبي في الوقت الحاضر إلا نداء القليل من المرضى.
ولن أحلمَ  كثيراً إن إقترحت توفير مساعدات إجتماعية ثابتة، فأغلب الأمراض النفسية كالفصام مثلا يجعل من العمل بمهنة مستمرة أمراً صعباً، مما يؤثر بطريقة مباشرة على عائلته .
في آخر زيارة لي لسوريا إكتشفت أن دور الطبيب النفسي لم يعد ثانوياً أو حكراً على فئة ما ، لقد قرر المجتمع السوري كما يبدو أن يعترف بوجود المرض النفسي وأن هذا المرض يحتاج إلى طبيب ولن يُقضى أمره بسحر وشعوذات.
نعم لم أعد أرى علامات التعجب والإستغراب على وجه من يعرف أنني طبيب نفسي ، حتى

حتى أمي التي أرادتني جراحاً أو طبيب توليد أو أطفال.
 لم تعد ترتبك بخجل عندما يسألونها عن إختصاص إبنها
وأقتنعت أنني طبيب كباقي الأطباء



admin