2024-09-21 18:20:49
رسالة من الأب زحلاوي الى مفتي سوريا

=============

الاثنين 10 تشرين الأول 2011
الأب الياس زحلاوي
تُرى هل كانت سورية بحاجة إلى مثل هذا الثمن الباهظ من دم جميع شهدائها وجرحاها لتنال نعمة الولادة الجديدة؟

أخي سماحة المفتي: ‏

خانتني ذاكرتي، إذ حاولتُ جاهداً، أن أستحضر من تاريخ الشعوب، القديم والحديث، اسمَ والدٍ واحدٍ رثى ولده، كما آتاك الله، جلَّ جلاله، في الأمس، أن تفعل، وجثمان سارية بين يديك، بل في عينيك، لم يُوارَ الثرى بعد، فيما أجهزة التلفزيون مسلطة عليك. ‏

لست أدري ما الذي انتابني، وأنا أراك وأسمعك تغالب الدمع والألم، وتبحر بعيداً مع سارية في رحاب إلهيّة حقيقية، من إيمانٍ وحب وشهادة وصدق وغفران… ويا لها من رحاب! ‏

أكنت أنت المتكلم، أم كان آخر يتكلم فيك؟ ‏

أجل، كنتُ أستشعر في صوتك صدى قوياً لعالم عُلويّ، لا يمكنه إلا أن ينساب إلى أعماق كل إنسانٍ إنسان… يسمعك ويراك. ‏

هل أُتيح لك أن ترى ما كنتَ، وأن تسمع ما قلت؟ ‏

دعني أجزم بأنك، لو فعلت، لكنتَ أول المندهشين ممّا كنت، وممّا قلت… ‏

أكنتَ أنت مَنْ يتكلم، أم كنتَ كلّ أب وكلّ أم، فقد ولداً… وما أكثرهم في سورية وفي العالم!؟ ‏

أكنتَ أنت مَنْ يتكلم، أم كنتَ كلّ حبيبٍ، وكلّ حبيبةٍ، فقد حبيباً… وما أكثرهم في سورية وفي العالم!؟ ‏

أكنتَ أنت مَنْ يتكلم، أم كنتَ كلّ إنسان انسلخ من قلبه ومن كبده، بعضٌ من قلبه ومن كبده… وما أكثرهم في عالمٍ يتمادى في تناسي الله، عزَّ وجل، ويتبارى في التهام الأرض والبشر؟… ‏

أوَلم تكن، إذ تكلمت، كلّ مسلم مؤمن وصادق، اكتوى لما آلت إليه في دنيا الإسلام، شؤون مَن اسمه العظيم لم يكن يوماً سوى الرحمن الرحيم؟ ‏

أوَلم تكن أيضاً، إذ تكلمت، كلّ مسيحي مؤمن وصادق، اكتوى لما آلت إليه في دنيا الغرب وبعض الشرق، شؤون السيد المسيح، الذي لم يكن يوماً سوى حب وتضحية وغفران؟… ‏

أكنتَ حقّاً أنت مَنْ يتكلم؟ ‏

أجل كنتَ أنت الأب المذبوح في ولده، وكنت أيضاً مفتي جمهورية تضم ثلاثة وعشرين مليون إنسان، وقفت بهم راثياً ومعزّياً وهادياً في آنٍ واحد! ‏

وكنتَ أيضاً، أجل، سأقولها، كنتَ سورية بالذات، سورية الأبجدية والتاريخ والحضارة، وكأني بها تجسّدت في إنسان، جبلت ذراته كلها من تراثها الروحي والإنساني الرائع، ليقف في الناس وقفة قلما أُتيح لإنسان أن يقفها، فيدعوهم جميعاً للعودة إلى حضن أمهم الواحدة سورية، لا ليمزقوه، بل ليولدوا منه، من جديد، ولادة حب وغفران ورجاء وسلام، لا من أجلهم وحدهم، بل أيضاً من أجل الأمة العربية كلها، وربما من أجل العالم! ‏

أخي سماحة المفتي: ‏

أُتيح لي، بفضل من الله، أن أعرفك منذ سنوات كثيرة، وقد كنت دوماً محبّاً، باسماً، كبيراً واسع القلب والأفق. ‏

أما اليوم، فقد آتاك الله، بعد استشهاد سارية الغالي، أن يعرف ما في أعماقِ أعماق قلبك، من إيمان وحب وسعة وغفران، الملايين في سورية وفي العالم… ‏

تُرى، هل كانت سورية بحاجة إلى مثل هذا الثمن الباهظ، من دم سارية ودم جميع شهدائها وجرحاها، لتنال نعمة الولادة الجديدة؟ ‏

أرجو ذلك، وأسأل الله في اتضاع، وهو السميع المجيب، مع جميع سائليه، منّته العظيمة هذه، من دون تأخير! ‏

معك، ومع أسرتك المكلومة، ومع جميع أبناء سورية، في الوطن والمغتربات، أرفع الحمد لله، جلَّت حكمته على كل حكمة، وجلَّت محبته التي شاءت أن يكون مآل الناس جميعاً إليه وحده، هو الرحمن الرحيم. ‏

أقبّلك قبلةَ إيمانٍ وعزاءٍ ورجاء. ‏

أخوك ‏

الأب الياس زحلاوي ‏



أسرة الموقع