ما بين قرية جون الوادعة في ريف الشوف بلبنان التي شهدت ولادة المطرب الراحل نصري شمس الدين ومدينة دمشق التي خطفه الموت وهو يغني على أحد مسارحها مسيرة فنية حافلة لمطرب اختزل في صوته فلكور بلاد الشام وأغاني تستمد جوهرها من إرث ضارب في الجذور لمئات السنين.
في يوم السابع والعشرين من حزيران عام 1927 ولد نصر الدين مصطفى شمس الدين في قرية جون اللبنانية لعائلة تعرف بعائلة المشايخ وكان أصغر أبناء مصطفى شمس الدين الذي أنجبت له زوجته ستة ذكور وثلاث إناث.
ولكن هذا الاسم الذي منحه إياه أبواه سيختفي وسيبقى مقتصراً على السجلات الحكومية وسيعرفه المستمعون العرب باسم نصري شمس الدين والذي أطلقه عليه الأخوان رحباني في بداية تعاونه الفني معهما.
ورث نصري عن والديه رقة الصوت وعذوبته وكانت والدته تطرب لوليدها عندما تسمعه يدندن أغاني الفنان كارم محمود ولكن الوالدين لم يدر بخلدهما أن أصغر أبنائهما سيخالف رغبتهما في أن يكون طبيباً أو مهندساً وسيحترف الغناء لآخر لحظات حياته.
وكان نصري يروي باستمرار كيف امتلك الجرأة ليغني أمام رئيس الوزراء اللبناني أحمد الداعوق وعمره لم يتخط الثالثة عشرة في حفل مدرسي قدم خلاله الأغنيات المناسبة لانتهاء العام الدراسي وبلغ من إعجاب الداعوق بصوته أن سحب من يده ساعته الذهبية وقدمها للمطرب الناشئ إعجاباً بصوته لينطلق اسم نصري في قريته جون وفي القرى المجاورة لها وليطلق عليه لقب كان الأكثر قرباً إلى قلبه وهو مطرب الضيعة.
بعد أن حصل نصري على شهادة التعليم المتوسط عام 1943 عمل كمدرس لغة عربية لمدة ثلاث سنوات ولكن هذه المرحلة سرعان ما انتهت من حياته بعد أن ضبطه مدير ثانوية صور وهو يغني للطلاب في الصف خلال الحصة الدراسية فخيره بين الغناء أو التدريس فاختار الرغبة الأولى بدون تردد.
وبعد أن عزم نصري شمس الدين أمره في احتراف الموسيقا سافر إلى مصر قبلة الفنانين آنذاك والتقى مسؤولين في شركة نحاس فيلم وبقي ثلاث سنوات مع فرقة الممثل المصري إسماعيل ياسين ثم انتقل إلى بلجيكا ليدرس الموسيقا ويعود منها حاملاً دبلوما في الموسيقا.
وكان على نصري انتظار الفرصة المناسبة عقب عودته إلى لبنان حيث عمل موظفا في مجال الهاتف بمركز بريد بيروت حتى بداية العام 1952 والذي خطا فيه مطربنا الراحل أولى خطواته نحو عالم الفن بعد أن قرأ إعلاناً في صحيفة لبنانية تطلب فيه إذاعة الشرق الأدنى مواهب فنية شابة.
ولعب القدر لعبته عندما تشكلت اللجنة الفاحصة في الإذاعة من الأخوين عاصي ومنصور الرحباني وحليم الرومي التي وافقت بالإجماع على ضمه إلى مطربي الإذاعة التي أصبح اسمها لاحقاً إذاعة لبنان الرسمية.
وخلال فترة قصيرة اشتهر نصري شمس الدين كمطرب يؤدي الأغنية الجبلية والريفية بكلماتها البسيطة التي تعبر عن الضيعة وطبيعتها وطباع أهلها البسيطة فشارك في ثلاثة اسكتشات غنائية وهي مزراب العين وحلوة وأوتوموبيل وبراد الجمعية قبل أن يطلق أغنيته الخاصة الأولى بحلفك يا طير بالفرقة من ألحان المبدع فيلمون وهبي.
وبدأت العلاقة الوثيقة بين نصري شمس الدين والأخوين رحباني والتي استمرت 28 عاما عندما شارك في أداء ثاني أعمالهم المسرحية موسم العز والتي قدمت لأول مرة على مسرح معرض دمشق الدولي عام 1960 إلى جانب وديع الصافي.
وعلى مر السنين غدا صوت نصري حكراً على الرحابنة فشارك في جميع أعمالهم الفنية التي ناهز عددها 19 مسرحية واسكتشا غنائيا وكان ممثلاً أساسياً يتقاسم البطولة إلى جانب المطربة الكبيرة السيدة فيروز بداية وحتى مسرحية بترا التي عرضت بدورها على مسرح معرض دمشق الدولي عام 1977 وكانت آخر عمل مسرحي مشترك بين فيروز والرحابنة إلى جانب مشاركته في الأفلام الثلاثة التي لعبت بطولتها فيروز وهي بياع الخواتم وسفر برلك وبنت الحارس.
وكان مفاجئاً للكثيرين ذلك الأداء البسيط والعفوي والقوي في نفس الوقت الذي قدمه نصري في أعمال الرحابنة إذ بات الممثل الأكثر شعبية في أعمالهم وحصل على قلوب الجمهور وانتزع ضحكاتهم ودمعاتهم رغم انه ليس مطربا بالأساس وما زال في البال أداؤه لشخصية صاحب الكذبات البريئة كما في مختار الضيعة بمسرحية بنت الحارس أو أبو ديب في مسرحية يعيش.
وأدى نصري شخصيات متشابهة في مسرحيات الشخص وصح النوم والمحطة فظهر فيها في موقع الشخص المسؤول الذي يحاول أن يبرر فساد السلطة ويقنع الشعب بعدلها معهم ولكن دوره الأكثر بقاء في الذاكرة كان في شخصية ماسح الأحذية بمسرحية لولو كما لم ينس قريته ومسقط رأسه جون عندما غنى لها في مسرحية ناس من ورق والتي أدى فيها شخصية مدير فرقة سيرك أغنية بلدي جون.
ويوم مرض عاصي الرحباني وتعرض لأزمته الأولى عام 1973 بكى نصري الفنان الذي كان يحب أن يستمر معه في الفن الأصيل وتألم يوم اختلف عاصي مع فيروز وكان همه أن يستمرا فنياً ليس لحاجتنا الفنية إليها بل لحاجة لبنان والشعب العربي لفنها العظيم كما صرح نصري بذلك للصحافة الفنية.
وشكل انفصال فيروز عن الرحابنة عام 1979 نهاية العلاقة التي جمعت نصري مع الرحابنة وبدأ يشق طريقه وحيداً كمطرب مستقل على أسطوانات وكاسيتات بما عرف بالبوم الطربوش ضمن مجموعة من الأغاني من ألحان ملحم بركات.
ولم يمهل القدر مطربنا الراحل مزيدا من الوقت للمضي في مشواره الفني الخاص إذ كان موعده مع الموت يوم 18 آذار عام 1983 في نادي الشرق بدمشق عندما هوى فوق خشبة المسرح التي طالما أحبها وأحبته وكانت زوجته هيلدا معه حيث نقل إلى المشفى لكنه فارق الحياة إثر نزيف حاد في الدماغ وعمره لم يتخط 56 عاماً.
ويعتبر بعض النقاد أن نصري شمس الدين لم يأخذ فرصته الحقيقية في عالم الفن والأضواء لأن أدواره المسرحية والسينمائية وأغانيه كانت تحتل دائماً المرتبة الثانية في أعمال الرحابنة بعد السيدة فيروز وكان حرياً به أن ينفصل عنهم مبكراً كما فعل العملاق وديع الصافي.
ورغم أن هذه الآراء لم تجانب الحقيقة إلا أن أدوار نصري وأغنياته مع الرحابنة ما زالت تلقى صدى طيباً عند الجيل الجديد حتى أن الكثير من المطربين الشباب يلجؤون إلى أغنياته في حفلاتهم والتي يطلبها الجمهور باستمرار.
وعلى منوال الكثير من إبداعات الفن الرحباني التي استقوها من بيئة بلاد الشام ظهرت أغان عديدة لنصري شمس الدين خرجت من رحم ريف هذه المنطقة المتنوع ومن بين أكثر من 500 أغنية هي تراث هذا المطرب الكبير تشمخ أغاني نبتت من جذور عريقة مثل أغنية يا ظريف الطول من التراث الفلسطيني وعلى ألماني وعالالا من تراث الريف السوري بل أنه استقى أغنيته الشهيرة شبابيك الحلوة بطرطوس أثناء زيارته برفقة الرحابنة لهذه المدينة الساحلية الوادعة.
وقد تكون أغنية خسرتك يا نصري التي شدت بها السيدة فيروز في وداع مطربنا الراحل أصدق تعبير عن خسارة هذا الفنان لأنه فعلاً يليق لصوته أن يغني أكثر ويليق لصوته العز والشهرة والأضواء كما تقول كلمات الأغنية.
عملاق
جريس السيوطي